«أبراهام» و«النقب» أولاً و«حل الدولتين» لاحقاً

«أبراهام» و«النقب» أولاً و«حل الدولتين» لاحقاً
معتصم حمادة: عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

«أبراهام» و«النقب» أولاً و«حل الدولتين» لاحقاً

بنت القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية رهانها، للوصول إلى تسوية سياسية مع إسرائيل، على وعود الرئيس الأميركي جو بايدن حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، وحتى قبل إرساله أية إشارة تؤكد مصداقية وعوده، بعملية سياسية في إطار «حل الدولتين»، سارعت القيادة السياسية للسلطة إلى تقديم أولى تنازلاتها المسبقة في 17/11/2020، بالإعلان عن التراجع عن نتائج الحوار القيادي في 19/5/2020، بالتحلل من التزامات أوسلو، والتراجع عن قرار 3/9 للأمناء العامين بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، والعودة بدلاً من هذا كله إلى الالتزام بـاستحقاقات «أوسلو»، بما في ذلك التعاون الأمني مع دولة الاحتلال، مدعية أنها بذلك حققت انتصاراً سياسياً مهماً في محاولة للاستخفاف بالعقول، وكأن «التزام أوسلو»، وليس التحلل منه، هو المكسب السياسي لصالح القضية الفلسطينية، رغم انقضاء حوالي ثلاثين عاماً على التوقيع عليه، دون التقدم خطوة واحدة على طريق إطلاق عملية سياسية ذات مغزى، تضع حلاً مرحلياً للقضية الفلسطينية.

ومنذ ذلك التاريخ والقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، تطلق المناشدة تلو المناشدة، تستجدي فيها الإدارة الأميركية بوضع «حل الدولتين» الموعود على النار، وفي كل مرة تؤكد الإدارة الأميركية في إطار الرد، على مناشدات القيادة السياسية للسلطة، أن «حل الدولتين» قادم، ولكن ليس في المدى المنظور، وأنه قادم بالضرورة لكن على المدى الطويل، كما ورد في «إعلان القدس» بين الرئيس بايدن، ورئيس حكومة إسرائيل السابق لابيد في 15/7/2022.

وفي زيارته النادرة إلى المنطقة، يحرص وزير خارجية الولايات المتحدة انتوني بلينكن، على التأكيد للقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، أن الظروف لم تنضج بعد لإطلاق عملية سياسية لصالح «حل الدولتين»، وأن سقف ما هو ممكن، في الوقت الراهن هو حلول جزئية، من شأنها أن تمهد لـ«حل الدولتين»، كالـ«الحل الاقتصادي» (الاقتصاد مقابل التعاون الأمني)، وتعزيز التفاهمات الأمنية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي (مسار العقبة – شرم الشيخ)، والعمل في السياق نفسه، كما قال وزير الشؤون المدنية في حكومة اشتيه، العمل على حماية «حل الدولتين»، بما يعني الالتزام باستحقاقات «اتفاق أوسلو»، من أجل توفير الشروط لـ«أفق سياسي» يمهّد لـ«حل الدولتين» دون أن تغير الولايات المتحدة من تأكيدها، مقابل هذا «التفاؤل» كله، «حل الدولتين» قادم لكن في المدى البعيد، وهو ما يدعو للتساؤل ما هو السبب؟! … أو ما هي الأسباب التي تدفع بالولايات المتحدة لتأخير الوفاء بوعودها للقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، ووضع القيادة الفلسطينية على النار، وصولاً إلى «حل الدولتين» ؟! …

قبل البحث عن هذه الأسباب، من المفيد أن نتذكر التالي:
أولاً: إن «حل الدولتين» منذ أن أطلقه في فضاء الوعود الأميركية الرئيس الأميركي الأسبق بوش الابن عام 2001، اشترط أمرين: الأول تغيير القيادة الفلسطينية (أي الرئيس عرفات) لصالح قيادة جديدة، وهذا ما تحقق شرطه في العام 2004.

الثاني: أن تكون «الرباعية الدولية»، هي الإطار الذي يرعى المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، بديلاً لأي مؤتمر دولي قد يدعى له تحت مظلة الأمم المتحدة. مع وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، لفظت «الرباعية الدولية» أنفاسها، ولم تعد تذكر على لسان الإدارة الأميركية، وواصلت إدارة بايدن هي الأخرى، تجاهلها للـ«الرباعية الدولية»، التي يمكن التأكيد أنها نفقت، وقد أهيل التراب على جثتها.

• حاولت «رباعية ميونيخ» (مصر والأردن وألمانيا وفرنسا) أن تشكل كاسحة ألغام للـ«الرباعية الدولية»، من خلال عقد اجتماعاتها، تعيد فيها التأكيد على «حل الدولتين»، وأن تمارس الضغط على الجانب الفلسطيني (وحده وليس على الطرفين معاً) للحفاظ على «الأجواء» المناسبة لإطلاق «حل الدولتين»، ما يعني في السياق، الالتزام باستحقاقات «أوسلو»، وتعطيل قرارات المجلسين الوطني والمركزي، والتي ما زالت معطلة منذ آذار (مارس) 2015، أي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، مع وفاة «الرباعية» الأصل، رحلت «الرباعية» الفرع، ولم نعد نلمس لها أثراً في خضم الأحداث المتلاحقة في السلطة، بما في ذلك التصعيد الإسرائيلي، السياسي والأمني والعسكري، وصولاً إلى العمل على تنفيذ «مشروع الضم» الزاحف في الضفة الفلسطينية، واستكمال تهويد القدس، والتمهيد لمحو المقدسات الوطنية (خاصة المسجد الأقصى) من الوجود لصالح ما يسمى «الهيكل الثالث».

وهكذا انتهت مرحلة من مراحل الوعود لـ«حل الدولتين»، امتدت من العام 2002 إلى العام 2016.

«صفقة القرن»

مع وصوله إلى البيت الأبيض، أطلق الرئيس ترامب «صرعته» (وليس صرخته) لحل الصراع في الشرق الأوسط، حلاً شاملاً، أطلق على صرعته هذه اسماً مثيراً للانتباه «صفقة القرن» أو «صفقة العصر»، انجذبت إليها القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، باعتبارها الحل الوحيد الممكن، المطروح في المحافل الدولية، في تجاهل تام لقرارات المجلس المركزي بالتحلل والتحرر من التزامات «اتفاق أوسلو» لصالح صيغة فلسطينية، تشكل استراتيجية بديلة وجديدة لكل ما تم التوقيع عليه في «مسار أوسلو» من التزامات.

«صفقة القرن» تحولت إلى «صفعة القرن» على حد تعبير رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن:

• اعترفت بـ«القدس الموحدة» عاصمة لدولة إسرائيل، وقررت نقل السفارة الأميركية إليها، وإلغاء القنصلية العامة.
• الاعتراف بحق إسرائيل في الحفاظ على المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
• عدم الاعتراف بحدود 4 حزيران (يونيو) أساساً للتسوية.
• دولة فلسطينية «متصلة»، أي مقطعة الأوصال، تفصل بين مناطقها المتناثرة في أرجاء الضفة، عوائق وجسور وأنفاق وطرق التفافية ومراكز عسكرية وأمنية.
• إعادة النظر بتعريف «اللاجئ الفلسطيني»، ونزعه عن المواليد خارج فلسطين، في سياق شطب حق العودة، وفي السياق حل وكالة الغوث، وتشجيع «الشركاء» على فرض الحصار المالي عليها، لتتلاشى ميدانياً، بتوقف خدماتها.

أما الجانب شديد الأهمية في «الصفعة»، والذي لا يقل أهمية عما ورد أعلاه، فهو القول بأن حل القضية الفلسطينية لا يشكل شرطاً لتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، ودمج إسرائيل في المنظومة العربية.

تحالفات أبراهام

شكلت «تحالفات أبراهام» ركناً أساسياً من أركان «صفقة القرن»، اعتبرته الولايات المتحدة تطبيقاً لمبادرة السلام العربية (وفقا للرؤية الإسرائيلية – الأميركية)، وعاملاً مسانداً لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، من خلال تكريس «السلام» أساساً للعلاقات العربية – الإسرائيلية، ما يستتبع بالضرورة سلاماً فلسطينياً – إسرائيلياً وفقاً للرؤية الأميركية، كما أوضحتها «صفقة القرن»، والتفاصيل التي تم الإعلان عنها، أي أن الإدارة الأميركية وضعت في حساباتها تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، شرطاً مسبقاً للوصول إلى حل للمسألة الفلسطينية، بحيث تتحول الأنظمة العربية من مساند للفلسطينيين، كما تفترضه قرارات القمم العربية، إلى مجرد وسطاء يميلون نحو الضغط على الجانب الفلسطيني للقبول بما يقدم له من حلول، باعتباره بات هو العقدة الأخيرة في مسلسل «التطبيع العربي – الإسرائيلي»، مع وعود عربية بمساعدة سخية للكيان الفلسطيني، أياً كان اسمه، وأياً كانت صفته، توفر له شروط «الحياة»، وتوفر لطبقته الحاكمة امتيازات مغرية.

مع بايدن … «أبراهام» ما زال حياً

لم يغادر مشروع «تحالف أبراهام» مكانه في اهتمامات الولايات المتحدة، مع مغادرة ترامب البيت الأبيض، إذ بات يشكل محوراً رئيسياً، في الاستراتيجية الأميركية في منطقتنا.

لم تتراجع اهتمامات إدارة بايدن بهذا المحور، بات يحتل في اهتماماتها مكاناً رئيسياً، باعتباره المهمة المباشرة لإعادة هيكلة الأوضاع في الشرق الأوسط، فدعت إلى تعزيز علاقات التطبيع العربي – الإسرائيلي، وأحدثت نقلة استراتيجية، حيث صبت اهتماماتها على إزالة «العراقيل»، والوصول إلى أساس للتطبيع السعودي – الإسرائيلي.

وفي هذا السياق عينت الخارجية الأميركية مبعوثاً خاصاً لها إلى الشرق الأوسط، هو السفير الأميركي الأسبق في إسرائيل، دان شابيروت، لمهمة رئيسية هي العمل على توسيع إطار «تحالف أبراهام».

«منتدى النقب» لدمج إسرائيل في المنطقة

إلى جانب «تحالف أبراهام» أطلقت الولايات المتحدة، صيغة إقليمية، حاولت من خلالها أن تستعيض بها عن «الرباعية الدولية»، وأن تستأنف ما كانت تقوم به مفاوضات متعددة الطرف، التي انطلقت مع «مؤتمر مدريد للسلام»، ثم ما لبثت أن خبت نارها. هي صيغة «منتدى النقب»، والذي ضم إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة، كلاً من مصر والإمارات والمغرب والبحرين، وتواصل الولايات المتحدة ضغوطها لضم الأردن والسلطة الفلسطينية إليه، وتعتبر الولايات المتحدة هذه الصيغة، مكملة لصيغة «تحالف أبراهام»، وظيفتها تعميق العلاقات بين أطراف «المنتدى»، وتكريسه إطاراً، واستكمال هيكل المنطقة، ودمج إسرائيل فيها، كما يؤكد على ذلك أركان الإدارة الأميركية، وكما ورد في «إعلان القدس» بين بايدن ولابيد (15/7/2022)، وهو إعلان نصَّ على أنه ليس اتفاق بين رجلين (أي بين بايدن ولابيد)، بل هو اتفاق استراتيجي بين دولتين، ملزم لهما، بغض النظر عن المتغيرات في البيت الأبيض، أو في ديوان رئاسة حكومة إسرائيل، أي أن «منتدى النقب» + «تحالف أبراهام» ما زالا ملزمين لإدارة بايدن، حتى في ظل حكومة الثلاثي الفاشي في إسرائيل، والذي تدّعي الولايات المتحدة بأنها تعمل على رسم مسافة بينها وبينهم، احتجاجاً على ممارساته الفاشية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

خلاصة

• لم يعد خافياً أن الوعود الأميركية للقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، والتي على أساسها أعادت السلطة التزاماتها بـ«اتفاقات أوسلو»، ما هي إلا وعود زائفة، لم يتحقق منها وعد واحد، والتقديرات تقول أن وعداً واحداً لن يتحقق في ظل المسار السياسي لإدارة بايدن في المنطقة.
• بات واضحاً أن الوعد بـ«حل الدولتين»، صار هو أيضاً واحداً من الوعود الأميركية الزائفة، ولا يكفِ بايدن ووزير خارجيته بلينكن، عن التأكيد أن إطلاق «حل الدولتين» سيكون في «المدى البعيد»، دون تحديد أي سقف زمني لمثل هذا «المدى».
• بات واضحاً في هذا السياق، أن الحديث عن حماية «حل الدولتين»، ما هو إلا حجة وكذبة تحاول من خلالها بعض أطراف السلطة الفلسطينية، إخفاء استجدائها وتذللها للجانب الإسرائيلي، وإخفاء فشلها وعجزها في قيادة الشعب الفلسطيني إلى برّ الأمان.
وأخيراً وليس آخراً، إن إدارة بايدن لا تخفي أنها تعمل وفقاً لمعادلة واضحة، هي نفسها المعادلة الإسرائيلية للحل: التطبيع العربي – الإسرائيلي، ودمج إسرائيل في المنطقة أولاً … ثم لاحقاً البحث عن حل مصير ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة، خارج مشروع الضم، كالمدن على سبيل المثال، دون أي اعتبار لما سوف تشهده الضفة من تحولات جغرافية وديمغرافية، في ظل مشروع الضم الزاحف، الذي رسم آفاقه بوضوح مشروع سموتريتش القائم على الضم والتهجير، باعتبارهما وجهين لمشروع واحد.