اليسار… ما بين تحدي الوجود… ومتطلبات النهوض…

اليسار… ما بين تحدي الوجود… ومتطلبات النهوض…

فايز الشريف- الأردن
23 يناير 2020


اليسار… ما بين تحدي الوجود… ومتطلبات النهوض…


لم يتطور الإنسان كإنسان إلا عندما أصبح منتجا. لقد صنع الأدوات وسخرها في صراعه الوجودي مع بيئته، وتواصل من خلال اللغة مع مجتمعه. ولئن كانت اللغة هي مفتاح التواصل والتقارب والتعاون والمحبة والصراع على المستوى الاجتماعي، كان العمل المنتج هو الصانع الحقيقي لجوهر الإنسان وطبيعته البشرية.

لو لم تكن الأدوات والآلة لما كان هناك عمل منتج. فلا يمكن أن يستخرج الإنسان الممكن في الكائن ويصنع إنتاجه ما لم يكن لديه أداتين رئيسيتين: أداة فكرية وأخرى عملية. أداة فكرية تعطيه تصورا واضحا لما ينبغي أن يقوم به كي يستخرج هذا الممكن والمفيد والقيّم، وأداة عملية يصنعها ويطورها وفقا لحاجة الإنتاج وتعقيداته… كل ذلك كان يتم في إطار علاقات وأبنية اجتماعية تاريخية ومتطورة.

والأحزاب السياسية في حد ذاتها هي أدوات اجتماعية يفرزها المجتمع لكي يعبر كل منها عن طبقة أو شريحة أو فئة من فئات المجتمع تعبيرا فكريا أو سياسيا ويرسم رؤيتها وتطلعاتها على المستوى الاجتماعي ويقود نضالاتها وفق تلك الرؤى والتطلعات.

والأحزاب اليسارية هي نفسها تندرج في هذا الإطار، إلا أنها تعبر في الأساس عن فكر وسياسة الطبقة العاملة وتدافع عن مصالحها وعن المصالح الحقيقية لسائر فئات وشرائح الشغيلة والكادحين والمسحوقين من الفلاحين والبرجوازية الصغيرة.

وتتطلع الأحزاب اليسارية في بلداننا إلى قيادة عملية تغيير عميق في المجتمع يحرر الوطن من كل مظاهر الاحتلال والتبعية السياسية والاقتصادية ويقود إلى بناء حضاري يقضي على كل مظاهر الفساد والفقر والجهل والبطالة والمرض والتخلف، وينهض بالبلاد نحو آفاق ينتهي فيها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

هذه الرؤية النظرية الإيجابية والمتفائلة لدى الأحزاب اليسارية دفعت ثمنا لها الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، وأطنان من المعاناة على المستوى الشخصي والاجتماعي. ورغم كل تلك النضالات والتضحيات لم تصل هذه القوى إلى قيادة عجلة التغيير المرجو والمؤمل. ورغم أن بعض هذه القوى قد مضى على وجوده أكثر من قرن… إلا أنها بقيت تراوح في المكان ويتعذر عليها النمو والامتداد.

لا بد من مراجعة حقيقية لهذه الأزمة… نحن ندرك أن العامل الموضوعي كان معرقلا، فقد استطاعت هذه القوى رغم كل أنواع القمع والاضطهاد من الحفاظ على ذاتها وقدمت تضحيات كبرى في سبيل ذلك، مما اضطر الأنظمة في العديد من بلداننا للاعتراف على مضض بوجود هذه الأحزاب، واستفادت هذه الأنظمة بالمقابل من جراء ذلك بإلباس نفسها ديكورا ديمقراطيا جميلا فارغ المضمون.

لكن هذا الظرف الموضوعي المعرقل والقاسي والمعقد قد واجهته وتحدّته كل الثورات وحركات التغيير التي نجحت في هذا العالم، واستطاعت التغلب عليه بكل براعة وإبداع فكري وسياسي وتنظيمي ونضالي.

من هنا نستنتج أن مضمون الأزمة التي تعاني منها قوى اليسار العربي هي ازمه ذاتية. ويتلخص جوهر هذه الأزمة في عدم استجابة الأدوات الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية لهذه القوى في إحداث التغيير النوعي في الواقع المعاش. إن المراوحة في المكان والحفاظ على الذات، وحتى بعض النجاحات التي حققتها قوى اليسار عبر تاريخها ومن خلال نضالها… كل ذلك رغم إيجابياته ليس كافيا لإحداث التغيير المطلوب.

لا بد أن تطور قوى اليسار من أدواتها. وفي مقدمة هذه الأدوات هي الرؤية الفكرية النظرية التي تقرأ بعمق كل تعقيدات الواقع. وتعقيدات الواقع لدينا لا يمكن أن نقرأها وفقا لصيغ وقوالب جاهزة تأتينا دون أن نُعمل فيها العقل والتفكير، ودون أن نقرأ غنىً وتنوع الخاص لدينا. فالثورة علم، ولا بد لها من الاعتماد على نظرية ثورية، نقرأ بواسطتها وعلى ضوئها واقعنا، وفي الوقت نفسه نغني النظرية بإضافات من خلال تجاربنا وخصوصية ممارساتنا.

لقد كانت القراءات النظرية الكلاسيكية الماركسية منصبة نحو قراءة معمقة لخصوصيات البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا، واتخذ منها لينين ركيزة نظرية لقراءة الواقع الروسي وتسطير تجربة أول نظام اشتراكي حقيقي سوفييتي. بينما واقعنا افتقد إلى هذه القراءات المعمقة للواقع المعاش، ما عدا بعض الدراسات التي كان أهمها المشروع الفكري للشهيد مهدي عامل الذي لم يكتمل ولا زال ينتظر من المفكرين والأحزاب السياسية في بلداننا أن يكملوه كمشروع فكري نهضوي، آخذين بعين الاعتبار خصوصيات الواقع التبعي الكولونيالي لدولنا وبلداننا العربية.

وكذلك لا بد من تطوير الرؤية السياسية لهذه الأحزاب باعتبار أن السياسة هي علم إدارة الصراع الطبقي، بكل ما يعنيه ذلك من قراءة نقدية للواقع الاجتماعي والطبقي، وطبيعة التناقضات والاختلافات والمصالح وإدارة كل ذلك بإبداع واقتدار. فقراءة طبيعة التناقضات الموجودة في المجتمع وفرزها ورؤية تطوراتها، تهيئ الفرصة لامتلاك وممارسة هذا العلم.

لا بد من تطوير الأدوات التنظيمية لهذه الأحزاب سواء من ناحية تصليب بنيتها الداخلية أو لجهة تطوير صيغ ائتلافاتها والدفع باتجاه توحيدها أو توحيد جهودها على الأقل. هذا إضافة الى الدفع باتجاه صياغة أمتن التحالفات مع كافة الأحزاب والقوى ومؤسسات المجتمع المدني التي لها مصلحة في عملية التغيير، كل ذلك ليس على المستوى القطري فقط بل وعلى المستوى القومي العربي.

لا بد من تطوير مضامين الأشكال والأساليب النضالية المستخدمة، وان نرتقي بها لتكون بمستوى عملية التغيير الشامل.

في اعتقادنا أن أزمة النمو التي تعاني منها الأحزاب اليسارية سببها الأساسي هو عدم الالتفاف الجماهيري حولها وحول أطروحاتها. وان عملية التطوير النظري والسياسي والتنظيمي والنضالي لهذه الأحزاب، والتي نشدّد عليها، هي من اجل الوفاء بالتزامات إعادة الثقة بين هذه الأحزاب وبين الجماهير التي هي نفسها التي لها مصلحة في التغيير الوطني الديمقراطي وفي تحرير فلسطين.

إن الجماهير هي الصانع الحقيقي للتاريخ. وان نضالات القوى اليسارية لا بد أن تنطلق من أنها ليست بديلا عن الجماهير في النضال… فالحزب اليساري، أيا يكن، والذي يعتقد بانه يستطيع أن يغير بمعزل عن الجماهير سيصبح أمام حلين: إما أن يتحول إلى التطرف والعزلة والقفز في الهواء، أو أن يذهب باتجاه اليمين لأنه لا يستطيع أن يحقق ما كان يفكر به. أي بمعنى آخر إما أن يصبح حزبا انتهازيا يساريا، أو أن يصبح حزبا انتهازيا يمينيا… ولا يخدم في الحالتين إلا المعسكر المعادي.

إن بناء الذات اليساري على أرضية العمل الجماهيري الواسع والمؤطر والمنظم، ذو الامتدادات القومية، وامتلاك إرادة صلبة فولاذية للتغيير، وبآفاق أممية رحبة، كل ذلك سيعكس نفسه ليس فقط على تخطي الأزمة التي تعيشها قوى اليسار العربي، بل سنبدأ في رؤية وتلمس تباشير عملية التغيير على ارض الواقع، خاصة ونحن نعيش في ظل هذا الواقع العربي المتفجر.