مداخلة الرفيق الطاهر الدريدي في الندوة التي نظمها حزب النهج الديمقراطي العمالي بمناسبة ذكرى الشهداء

مداخلة الرفيق الطاهر الدريدي في الندوة التي نظمها حزب النهج الديمقراطي العمالي بمناسبة ذكرى الشهداء

تحية نضالية للرفيقات والرفاق في المكتب السياسي للنهج الديمقراطي العمالي ولكافة المناضلات والمناضلين على تنظيم هذه الندوة

تحية لعائلات الشهداء وعائلات كافة المعتقلين السياسيين.
تحية للشعب الفلسطيني ومقاومته والجد والخلود لكل شهيداته وشهداءه.
الإدانة كل الإدانة للصهاينة ولكل المطبعين والمتصهينين الجدد وللقوى الإمبريالية التي ترعاهم.
ونقول لهم جميعا لن تمروا.

تحية نضالية مجددا؛

إحياء ذكرى الشهيدات والشهداء هو عربون وفاء لرفيقات ورفاق ساروا بقناعة على درب التضحية من أجل تحرر شعبنا وتقدمه وبناء مجتمع الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وقدموا في سبيل ذلك أسمى وأغلى ما يمكن أن يقدمه الإنسان، وعملوا وجسدوا للعدو قبل الصديق أن جهاز الدولة الرجعي وآلة القمع والقهر والقتل ولا أي شيء آخر، مهما يكن، بإمكانه أن يوقف نضال وسير شعبنا والإنسانية جمعاء نحو التحرر من كل أشكال الاستغلال والاستيلاب؛ فاكتسبن واكتسبوا التقدير والمحبة الأبدية ونالوا استحقاق الحضور المتواصل في وجدان كل الشرفاء، نساء ورجالا، وكل المناضلين من أجل غد أفضل.

الشهيد بوبكر الدريدي، الذي غادرنا وهو في مقتبل العمر، ازداد وتربى في كنف أسرة متواضعة بين تسعة (9) من الأخوات والإخوة يعيلها أب معلم يدرس في سلك التعليم الابتدائي، وترعاها أم صهرتها التجارب وقساوة الحياة وهي يتيمة منذ الخامسة من عمرها وقواها التزام وتضحية أخويها في إطار النضال الوطني ضد الاستعمار؛ فكان بذلك وسط الشهيد العائلي ومحيطه القريب فضاء مشبعا بالقيم الشعبية النبيلة التي تعكس الهوية الإيجابية، الكفاحية، التقدمية التي لازالت تحصن مجتمعنا لحد الآن من اختراقات المخزن العميل والقيم الأنانية الرأسمالية في أبشع صورها.

لقد أهل هذا الوسط شهيدنا دون عناء يذكر، ليكون مهتما بالشأن العام في مستوياته السياسية والاجتماعية، إلى جانب ما كان للمدرسة ولنساء ورجال التعليم من دور هام في التربية والتوجيه وتأطير الشباب، وينضاف إلى هذا بالأساس ما كانت تشهده بلادنا في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي من أحداث وتحولات، ومن صعود للحركات التقدمية والثورية وضمنها الحركة الماركسية اللينينية على وجه الخصوص، ومن انتعاش هام للحركة الثقافية ببلادنا، خاصة بمدينة مراكش؛ وهو ما غذى ميولات الشهيد التحررية والإنسانية كما حصل لذى جيل كامل من أترابه، ليولد هذا كله لذى الشهيد إلتزاما فكريا، ماركسيا لينينيا، ومواقف سياسية تقدمية عبر ودافع عنها في كل المناسبات، وممارسة جدرية في مختلف واجهات العمل.

فمنذ سنة 1980، كان للشهيد حضور في الثانوية يتلمس من خلاله طريق النضال، منخرطا في نضالات الحركة التلاميدية وأنشطتها بالرغم مما كانت تعيشه من حصار وقمع؛ حيث كانت ثانوية أبي العباس السبتي نموذجا قويا للنضال التلاميذي إلى جانب ثانويات أخرى بالرغم مما كانت تعيشه الحركة من قمع وتجسس استخباراتي وملاحقات بوليسية منذ حملات القمع التي لم تنقطع منذ نهاية السبعينات؛ كما كان للشهيد، وهو لا يزال تلميذا اهتماما بمختلف الأنشطة وبالعمل الثقافي الذي تميزت به مدينة مراكش وقتها (ناديان سينمائيان وأنشطة متنوعة في كل من دار الشباب بعرصة الحامض وبدار الشباب بالداوديات وغيرها).

لقد كانت الحركة التلاميذية عموما بالمدينة مؤطرة ومتأثرة بالفكر الماركسي والتقدمي عموما وحقلا للتأطير الثقافي على كل واجهاته؛ كما كانت متأثرة بالإصدارات السياسية العلنية منها والسرية، وقد ساهم هذا كله في تهييء جيل من الشباب المناضل على مستوى الحركة التلاميذية والطلابية والثقافية وداخل بعض الأحياء الشعبية، وكان الشهيد نشطا في معمعان تلك الحركة ليلتحق بعد ذلك بالجامعة سنة 1882 وهو قد حسم اختياراته معززا صفوف الطلبة القاعديين بكلية العلوم بمراكش ومتحملا مسؤوليته في إطار الإتحاد الوطني لطلبة المغرب في مختلف إطارات الاشتغال التي كان معمولا بها حين ذاك.

وفضلا عن حضور الشهيد ونضاله الجماهيري، وتجسيدا لتطلعاته الثورية إلى جانب مجموعة من رفاقه الآخرين، فقد انخرط بوعي تام في التأسيس لتجربة ثورية موازية، تنظيميا وسياسيا، ساهمت بقدر لا بأس به في حدود إمكانياتها المتواضعة، في التحريض وتحريك الشارع الشعبي والشبابي على وجه الخصوص بمدينة مراكش، وهو ما سبق للرفيق لمحضر أحمد أن أشار إليه في إحدى كتاباته؛ وهي تجربة إلى جانب إنجازاتها التي قضت مضجع استخبارات المخزن، حافظت في نفس الوقت رغم اعتقال البعض على عدد آخر من المناضلين بفضل صمود الشهيد ورفاقه، مما مكن من استمرار بعضهم بذات النفس الثوري.

لقد تم اعتقال الشهيد بوبكر الدريدي في إطار حملة القمع الشرسة التي شنها نظام الحسن الثاني على عموم الحركة التقدمية إثر انتفاضة 1984 بعدما ظن الشهيد وعدد من الرفاق، بسوء تقدير منهم، أن حملة المخزن القمعية قد خفت أو توقفت؛ لكنه كان مرصودا ومتابعا، وبعدما نال حظه من التعذيب والاستنطاق المخزني المعهود، هو ومجموعة من رفاقه، تم إلحاقهم بمجموعة مراكش 1984 وتقديمهم بنفس التهم، المؤامرة الغاية منها قلب النظام والمس بشخص الملك وغيرها من التهم، وكان نصيبه 5 سنوات سنجا نافذا في محاكمة شكلية غابت عنها كل شروط المحاكمة العادلة، ولم تتميز سوى بثبات الشهيد ورفاقه على مواقفهم واستعدادهم لمواصلة النضال حتى من داخل السجن وأوضاعه الجهنمية؛ وهو ما كان حيث استمر الشهيد ورفاقه في الصمود والنضال بمعنويات عالية كسرت جبروت الجلاد وقلبت الآية بأن حولت المعتقلين إلى أحرار حقيقيين في سجنهم والجلاد ونظامه إلى آلة محاصرة مكبلا ومدانا على كل الأصعدة المحلية والدولية، بما يقترفه من انتهاكات جسيمة في حقهم وفي حق عائلاتهم وكافة المعتقلين السياسيين بالمغرب الذين حولوا بدورهم السجون إلى قلعات للنضال.

فبعنفوانه المعهود انخرط الشهيد في الإضراب اللامحدود عن الطعام بداية شهر يوليوز 1984 بمعية رفاقه من مجموعة مراكش دفاعا عن كرامتهم ومن أجل المطالب البسيطة التي يعرفها الجميع؛ ومثلما كان سباقا للتضحية والنضال كان كذلك سباقا للشهادة بعد 58 يوم من الإضراب عن الطعام في 27 غشت 1984، ليلتحق به رفيقه مصطفى بلهواري بعد يوم واحد في اليوم 59 من الإضراب، 28 غشت 1984، وكأنهما يقبضان على أيدي بعضهما البعض في النضال كما في السير نحو الشهادة.

لقد كان لوقع ارتقاء الشهيدين الدريدي وبلهواري أثرا كبيرا على رفاقهم وعائلاتهم وعلى المعتقلين السياسيين بالمغرب وعلى نضال شعبنا وحركته التقدمية في العديد من الواجهات، وهو ما لا يسع المجال للتطرق له، مثلما لا يسع المجال لتقديم شهادة في حق الشهيد مصطفى بلهواري، الذي كان قائدا طلابيا ملتحما من موقعه بنضالات شعبه، فكان متميزا بذلك على كل المستويات؛ ولا لتقديم شهادة كذلك في حق عدد من الرفاق الذين غادرونا وكان آخرهم الرفيق لقدور الحبيب، أو الذين لازالوا يعانون في صمت، ولا التطرق لصمود العائلات وفي مقدمتهم الأمهات ومن بينهم أمنا السعدية التي لم تفرق قط في حياتها بين أبناءها ورفاقهم أو بينهم وباقي المعتقلين السياسيين.

لا يسع المجال كذلك للتطرق إلى تجربة مجموعة مراكش في شموليتها، التي رغم كل ما كتب عنها فإنه لم يتم لحد الآن إيفاءها ما تستحق صونا للذاكرة ولتراث نضالي مشع بالتضحيات والصمود والتحدي في وجه أعتى الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ بالمنطقة.

تلك مسؤولية أحس بها وأقر بها، فذلك التاريخ لا هو ملك لي ولا لأي أحد، بل هو ملك لأبناء شعبنا وللأجيال القادمة، وسأعمل مستقبلا على الوفاء بهذا الواجب إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

شكرا للرفاق على مواصلتهم لهذا العمل تخليدا لذكرى الشهداء، ووفاء للغاية التي ضحوا من أجلها، وهي تحرر شعبنا من كل ربقة الاستغلال والاستبداد، وبناء مجتمع الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة.

المجد والخلود لشهيدات وشهداء شعبنا.
وتحية

الإثنين 13/ 11/ 2023