وضعية الحركة النقابية العمالية، ومجمل الشغيلة المغربية

وضعية الحركة النقابية العمالية، ومجمل الشغيلة المغربية
عبدالحميد أمين

إن التشتت النقابي اللعين هو جزء من الظاهرة العامة المتجسدة في التشتت على مستوى الحركة الجماهيرية ككل، بل على مستوى القوى السياسية نفسها؛ إن المخزن، انطلاقا من المقولة الشهيرة “فرق تسد”، وظف كل طاقاته السياسية والإيديولوجية والإعلامية والثقافية لتشجيع التقسيم وسط الشعب حتى يظل الفاعل الأساسي المتحكم في الأوضاع

1/ تعرف الحركة النقابية العمالية، ومجمل الشغيلة المغربية وضعية من التشتت غير مسبوقة ببلادنا. وهذا التشتت ظاهرة غير صحية بل وخطيرة تنضاف إلى الأمراض الأخرى التي تعيشها الحركة النقابية والمتجسدة في نفور الشغيلة من العمل النقابي والتقلص الفظيع لعدد المنخرطين/ات، في ضعف التضامن بين النقابات وبين النقابيين أنفسهم، في تفشي مظاهر البيروقراطية النقابية على حساب الديمقراطية الداخلية، في ضعف تبني القيم النضالية والإنسانية من طرف المسؤولين النقابيين، وفي تفشي قيم الانتهازية وخدمة المصالح الخاصة لدى العديد من القياديين النقابيين ضدا على شعار “خدمة الطبقة العاملة وليس استخدامها”، وفي تراجع الاستقلالية النقابية عن الدولة والباطرونا والأحزاب السياسية، وفي الانسلاخ التدريجي عن مبدأ التقدمية وما يشترطه من مواقف مناهضة للاستبداد والفساد والاستغلال الرأسمالي ومن ارتباط للعمل النقابي بالعمل الجماهيري عامة لمواجهة العلاقات المخزنية السائدة بشكل وحدوي.

2/ وللتنبيه، فإن هذه الإثارة لأمراض الحركة النقابية وبالصراحة اللازمة، لا يهدف كما يفعل بعض العدميين واليائسين إلى التحامل على الحركة النقابية العمالية وتبخيسها والدفع إلى النفور منها ومناهضتها وطرح بدائل وهمية لها، بل الهدف هو تصحيح مسار الحركة النقابية العمالية لتلعب دورها كاملا في الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية المباشرة (الحد من وطأة الاستغلال) والإستراتيجية (القضاء على الاستغلال الرأسمالي) وفقا لشعار “خدمة الطبقة العاملة وليس استخدامها” وللقيم النضالية والإنسانية التقدمية وللمبادئ النقابية الأصيلة: الوحدة والتضامن والديمقراطية والتقدمية والاستقلالية والجماهيرية.

3/ إن التشتت النقابي اللعين هو جزء من الظاهرة العامة المتجسدة في التشتت على مستوى الحركة الجماهيرية ككل، بل على مستوى القوى السياسية نفسها؛ إن المخزن، انطلاقا من المقولة الشهيرة “فرق تسد”، وظف كل طاقاته السياسية والإيديولوجية والإعلامية والثقافية لتشجيع التقسيم وسط الشعب حتى يظل الفاعل الأساسي المتحكم في الأوضاع. فهل نحن محتاجون لهذا الكم من المركزيات النقابية والتنسيقيات النقابية والجمعيات المهنية ذات الأدوار المشابهة للعمل النقابي؟ وهل نحن في حاجة لهذا العدد الضخم من التنظيمات الحقوقية والتنظيمات النسائية؟ وهل نحن في حاجة لهذا الكم الهائل من الفصائل الطلابية بينما أوطم، المفترض أن تكون منظمة نقابية لكل الطلاب، مجمدة وتعاني من الحظر العملي، الذي هو بالأساس حظر ذاتي؟ وهل المعطلون، الذين كانوا في مطلع التسعينات من القرن الماضي موحدين داخل الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب كإطار موحد وقوي للنضال من أجل الحق في الشغل وفي التنظيم، كانوا في حاجة لما عرفته حركتهم من تناسل لإطارات لا حصر لها كانت سببا في إضعافها؟ وهل بلادنا محتاجة لهذا الكم الهائل من الأحزاب السياسية؟ ولهذا الكم من التنظيمات والمجموعات اليسارية نفسها؟ قطعا لا. إن المخزن هو المستفيد الأساسي من التشتت الذي تعرفه الحركة السياسية والحركة النقابية والحركة الجماهرية عامة ببلادنا. وعلى عكس ذلك إن النهج الديمقراطي كان دائما مع الوحدة النقابية ومع كافة السبل التي تصب في اتجاهها، ومع الوحدة النقابية الطلابية داخل أوطم ومع وحدة الحركة الحقوقية ومع الوحدة الشعبية وهو ما جسده في مواقفه المتحمسة لبناء الجبهة الديمقراطية والجبهة الميدانية المعارضة للمخزن، والجبهة الاجتماعية المغربية، وفي دعمه لوحدة اليسار الجذري (تجمع اليسار الديمقراطي كنموذج) وفي سعيه لبناء حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين بتعاون مع سائر القوى الماركسية.

4/ إن التشتت النقابي كنقيض للوحدة النقابية التنظيمية (التي تعني أن الطبقة العاملة في حاجة إلى مركزية نقابية واحدة، مع ضمان التعددية السياسية داخلها) ليس قدر محتوم. فالعديد من بلدان شمال أورويا وبريطانيا وبلدان أخرى لها مركزية نقابية واحدة. وبلاد تونس الشقيقة لها مركزية نقابية واحدة، الاتحاد العام التونسي للشغل، لعبت دورا أساسيا في إسقاط الديكتاتور بنعلي وظلت تلعب دورا بارزا في إقرار الحريات الديمقراطية والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة بتونس. وفي المغرب نفسه، ومنذ انتهاء عهد الحماية إلى سنة 1960 لم يكن لنا سوى مركزية نقابية واحدة، لعبت دورا أساسيا في إقرار العديد من القوانين المتقدمة والاتفاقيات الجماعية وتحسين أوضاع الشغيلة. والاتحاد المغربي للشغل الذي بلغ عدد منخرطيه في نهاية الخمسينات 650.000 عضوا، أي ما يزيد بأكثر من النصف على العدد الحالي للمنخرطين/ات في جميع المركزيات النقابية، شكل بفضل قوته دولة داخل الدولة لمدة ما يقرب من 5 سنوات؛ وهذا ما دفع بالسلطة المخزنية إلى العمل على إضعافه من خلال خطة خماسية الأطراف تجسدت في:

ــ الدفع إلى التقسيم النقابي وإقرار ما سمي بالتعددية النقابية: تأسيس الاتحاد العام للشغالين المغاربة من طرف حزب الاستقلال في 1960 والاتحاد النقابي للعمال الأحرار من طرف التحالف الرجعي المسمى بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية قبل أن نصل للمشهد البئيس الحالي بوجود حوالي 20 مركزية نقابية.

ــ قمع القياديين النقابيين المخلصين للطبقة العاملة، مقابل منح الامتيازات للقياديين الانتهازيين والفاسدين وغض الطرف عن تجاوزاتهم.

ــ التشجيع على تشكيل جمعيات مهنية تدافع عن فئات معينة من الشغيلة، وتنافس بذلك، في مجال اشتغالها، العمل النقابي للمركزيات النقابية.

ــ إعطاء دور نقابي لمندوبي الأجراء الذين أصبحوا على مستوى المؤسسة الاقتصادية، خاصة بالقطاع الخاص، منافسين للممثلين النقابيين وبالتالي للنقابة نفسها.

5/ إن الوحدة النقابية العمالية تجد أسسها، من جهة في كون الطبقة العاملة توحدها مصالحها المشتركة وطموحها لبناء مجتمع بدون استغلال، ومن جهة أخرى في كونها تصارع قوى اجتماعية موحدة: الرأسمالية والكتلة الطبقية السائدة المستفيدة من النظام الرأسمالي والدولة المخزنية الراعية لمصالحها.

إن المشرفين على تقسيم الاتحاد المغربي للشغب والحركة النقابية لجأوا لعدد من المبررات أبرزها في البداية أن الاتحاد المغربي للشغل نقابة مسيسة، تخدم المشروع السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية (هذا هو مبرر حزب الاستقلال لتأسيس الاتحاد العام) وبعدها أن الاتحاد المغربي للشغل نقابة خبزية، لا تخضع العمل النقابي للعمل السياسي (هذا هو مبرر الاتحاد الاشتراكي لتأسيس الكونفدرالية). وهناك مبرر آخر يكمن في اعتبار أن التعددية النقابية تشكل أحد أسس الأنظمة الديمقراطية !!

سبق لي في كتابات سابقة أن أوضحت أن هذه المبررات واهية ولا يمكن أن تشكل أساسا للتقسيم النقابي، مادامت الوحدة النقابية تشكل خطا أحمرا لا يمكن المساس بها، لان ضرب الوحدة النقابية هو تجريد للطبقة العاملة من سلاحها الأساسي للمواجهة بنجاعة للكتلة الطبقية السائدة ولدولتها المخزنية ولمخططات المؤسسات المالية الإمبريالية العالمية. ويكفي أن نشير هنا لمعطى أساسي لفائدة الحفاظ على الوحدة النقابية: كلما ازداد عدد النقابات، كلما تراجع العدد الإجمالي للمنخرطين/ات فيها، وكلما تم التراجع عن المكاسب.

بعيدا عن المبررات الواهية للتقسيم النقابي، إن أسبابه الحقيقية تكمن في إدراك أعداء وخصوم الطبقة العاملة لمكانتها الأساسية في المجتمع ولقوتها، مما يستوجب في نظرهم العمل على إضعافها، وكإجراء استباقي تجزيئ حركتها النقابية.

فالرجعية المخزنية، انطلاقا من سياسة “فرق تسد”، شجعت دائما على تقسيم الطبقة العاملة وذلك انطلاقا من فهمها الخاص للديمقراطية المبني على تجزئة كتلة الطبقات الشعبية وتشتيتها من أجل إضعافها أمام الكتلة الطبقية السائدة، ومن هنا اللجوء إلى إنشاء نقابات رجعية.

أما القوى السياسية الانتهازية المعبرة عن مصالح البرجوازية المتوسطة والصغيرة، فقد اعتبرت بدورها أن مصلحتها تكمن في إخضاع جزء من الطبقة العاملة لنفوذها السياسي ولمخططاتها السياسية (الانتخابات بالخصوص) وذلك عبر إنشاء نقابات حزبية تابعة لها.

6/ إن التشتت النقابي يزداد تفاقما منذ بضعة سنوات. فبالإضافة لتفريخ مركزيات نقابية جديدة واستمرار عمل الجمعيات المهنية الفئوية المنافسة في مجالها للعمل النقابي، برزت ظاهرة التنسيقيات الفئوية التي تشتغل عموما باستقلالية عن العمل النقابي المؤطر من طرف المركزيات النقابية وتنظيماتها القطاعية من جامعات ونقابات وطنية. ونذكر هنا كنماذج، أطباء القطاع العمومي، الممرضون/ات، التنسيقيات المتعددة بقطاع التعليم وآخرها وأبرزها تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد. وتقوم هذه الأخيرة منذ 3 سنوات بنضالات متواصلة وقوية لفرض الإدماج في الوظيفة العمومية. إن مطلبها العادل ونضالاتها وتضحيات أعضاءها وفروا لها تضامن سائر القوى التقدمية والحية ببلادنا التي تأمل أن يكلل كفاحها بالنجاح. ونسجل مع ذلك أن نضال هذه التنسيقيات، رغم ما تتلقاه من تضامن ودعم، يبقى معزولا عن الحركة النضالية لشعبنا حيث عموما تتغيب عن التظاهرات الكبرى التي تهم الشعب المغربي. إن هذه التنسيقيات، التي نسعى لنجاح نضالاتها وتحقيق مطالبها، قد فاقمت تقسيم المشهد النقابي وأضافت له بعدا جديدا. ونحن طبعا ندرك أسباب هذه الظاهرة، لكننا، وكما كنا نسعى دائما لتجاوز التشتت النقابي التقليدي، نسعى كذلك اليوم لتجاوز المظاهر الجديدة لهذا التشتت.

7/ ما العمل إذن لتجاوز التشتت النقابي؟

ــ أولا: لابد للغيورين على مصالح الطبقة وعموم الكادحين أن يقروا بدون تردد بأن التشتت النقابي وبال على الشغيلة وأن المستفيد منه في نهاية المطاف هو المخزن والكتلة الطبقية السائدة والقوى البورجوازية الانتهازية. فلا يجب أن نقف منبهرين أمام كفاحية وجماهرية هذه التنسيقية أو تلك ونغفل مساهمتها في انتشارتظاهرة التشتت النقابي.

ــ ثانيا: لابد من رد الاعتبار لشعار الوحدة النقابية على اعتبار أن الوحدة النقابية سلاح الكادحين والتشتت النقابي نعمة للمستغلين. لابد كذلك من إقناع الشغيلة والمناضلين/ات النقابيين الغيورين على مصالح الطبقة العاملة بأن هذه الأخيرة ليست في حاجة سوى لمركزية نقابية واحدة وموحدة، تعددية سياسيا وفكريا، ديمقراطية، مكافحة، تقدمية، مستقلة عن الدولة والباطرونا والأحزاب ، متضامنة داخليا ومع الجماهير الشعبية، وجماهيرية من خلال انخراط معظم الشغيلة داخلها بغض النظر عن خصوصياتهم المتنوعة.

ــ ثالثا: إن الطموح لبناء مركزية واحدة وموحدة لكافة الشغيلة لن يتم بين عشية وضحاها؛ ولهذا كنا ومازلنا وسنستمر في تشجيع جميع المبادرات النقابية الوحدوية رافعين على الدوام شعار النضال النقابي الوحدوي وممارسين للنضال على أساسه ورافعين كذلك لشعار الوحدة النضالية في أفق الوحدة النقابية التنظيمية المنشودة داخل مركزية نقابية واحدة وموحدة.

وللتذكير فإن النهج الديمقراطي لم يتوان في تشجيع ودعم المبادرات الوحدوية داخل الحركة النقابية. فبعد انطلاق مبادرة التنسيق النقابي الثلاثي في 29 يناير 2014 بين الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل، بارك النهج هذه المبادرة رغم نواقصها. كما بارك النهج التنسيق النقابي بقطاع التعليم بين النقابات الخمس والذي انطلق في 3 يناير 2019.

ــ رابعا: إن بناء الحزب المستقل للطبقة العاملة الذي يسعى حزب النهج إلى الإعلان عن تأسيسه في مؤتمره الخامس المقرر عقده في شهر يوليوز المقبل، يعد عاملا أساسيا لتجاوز التشتت النقابي. فحزب الطبقة العاملة سيكون حتما مع الوحدة النقابية التنظيمية وقبلها مع النضال النقابي الوحدوي والوحدة النضالية. إن حزب الطبقة العاملة سيعمل بالضرورة على تجاوز التشتت المخرب لمصالح الطبقة العاملة وسيعمل بكل تفاني من أجل بناء العمل النقابي على أساس مبادئه الأصيلة وقيمه النبيلة وفي مقدمتها خدمة الطبقة العاملة وليس استخدامها. إن بناء حزب الطبقة العاملة يعد مكسبا عظيما للطبقة العاملة ولحركتها النقابية. فلابد إذن من تشجيعه ودعمه من طرف المناضلين/ات الشرفاء داخل الحركة النقابية العمالية. كما أن النهوض بالعمل النقابي على أساس المبادئ الأصيلة سيساهم بدوره في بناء وتقوية حزب العمال والعاملات ولهذا رفعنا داخل النهج الديمقراطي شعار: “بناء حزب الطبقة العاملة والنهوض بالعمل النقابي التقدمي مسيرة واحدة”

وضعية الحركة النقابية العمالية، ومجمل الشغيلة المغربية