في ذكرى النكبة: عودة إلى الثوابت الكبرى

في ذكرى النكبة: عودة إلى الثوابت الكبرى

معاد الجحري


في ذكرى النكبة: عودة إلى الثوابت الكبرى

في الذكرى 75 للنكبة، يأبى الضبع “الإسرائيلي” إلا أن يغرق فلسطين، في الدم والدمار في إطار عدوانه المتصاعد على الشعب الفلسطيني (عدوان الأيام الخمسة على غزة في شهر ماي 2023). نرى أن الكيان الصهيوني يطبق ما سبق أن ردده المجرم الفاشي ايتمار بنغفير بقتل الفلسطينيين ولو لمجرد رميهم العدو بالحجارة. الحقيقة أن قوات الاحتلال قبل عهد هذا المجرم، الذي أشرف على إحراق حوارة بالضفة الغربية، كانت ولازالت تقوم بقتل العديد من الفلسطينيين، فقط من أجل القتل، مجسدة شهية وغريزة القتل لدى نظام الأبرتهايد الصهيوني. كان هذا ولازال منذ النكبة. (1)

لكن الوجه الآخر لمقولة بنغفير هو خوفه من حجارة الشعب الفلسطيني ومن إمكانية تطورها إلى بركان يهز أركان نظام الأبارتهايد الصهيوني ويلقي به في مزبلة التاريخ. قال زعيم حرب الريف ومؤسس جمهورية الريف، العظيم محمد بن عبد الكريم الخطابي في استجواب من إقامته في مصر: “أن تلقي بالحجارة على المستعمر فتلك حركة بسيطة ولكن في بساطتها تكمن عظمتها”.

في الذكرى 75 للنكبة، لا بد من إعادة التأكيد على بعض الثوابت والمبادئ والمنطلقات الأساسية على طريق تفكيك الصهيونية ودحر العدو الصهيوني بصفة لا رجعة فيها.

1- يتعلق الأمر أولاً بمركزية الصراع ضد الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية في منطقتنا وفي مختلف مناطق العالم.

هنا، يلعب مفهوم الإمبريالية، دورا مركزيا. فهو أولا مفهوم علمي ينتمي للاقتصاد السياسي الماركسي ويعني الرأسمالية الاحتكارية، وهو أغنى وأخصب من مفهوم الاستكبار العالمي الفضفاض الذي تميل إليه بعض مكونات الإسلام السياسي. إن التركيز على هذا المفهوم المركزي يعني أن تحرير فلسطين، جزء من معركة شاملة ضد الإمبريالية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية، التي تمثل الدعامة الأساسية والاستراتيجية والحيوية للكيان الصهيوني وهي العدو الأكثر شراسة للإنسانية جمعاء. وفضلا عن ذلك فهو ضروري لفهم تطورات الأحداث التاريخية المتعلقة ببروز الحركة الصهيونية بتهجير اليهود واغتصاب فلسطين. ذلك أن هجرة اليهود، بعد السبي البابلي والاحتلال الروماني الذي وضع حدًا لقيام كيان يهودي على أرض فلسطين، اتجهت إلى ضفتي المتوسط والجزيرة العربية والبلدان المحاذية وحتى نهر الدون في روسيا. ولكن لا علاقة ليهود أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا بهؤلاء النازحين من فلسطين حوالي سنة 135 ميلادية. كما أنه لا علاقة عرقية لهم مع يهود شمال إفريقيا الذين كانوا يسكنون القبائل الامازيغية قبل ذلك التاريخ.

الحقيقة أن الصهيونية فعل إمبريالي انطلق من أوروبا الشرقية بالأساس خلال القرن التاسع عشر. وهذا راجع إلى تطور وتعامل البلدان الرأسمالية مع اليهود الذين كانوا محرومين من الأرض بسبب القوانين المسيحية ويشتغلون بالتالي في الحرف والتجارة (التي يستبعدها المسيحيون بسبب رفضهم للربا). ففي بلدان أوروبا الغربية التي كانت تمثل المراكز المتقدمة للنظام الرأسمالي، تم على العموم النجاح في إدماجهم، ومن لم يدمج هاجر إلى أوروبا الشرقية التي كانت ولازالت تحتل موقعا طرفيا في هذا النظام. وهكذا تكرس التهميش للحرفيين اليهود أمام الصناعة الصاعدة وانهزم “الربوي” المكروه الذي يكدس الأموال أمام المصرفي العصري والتاجر اليهودي الصغير أمام التاجر المسيحي الصاعد وهكذا(2). وإلى جانب هذا لا يمكن إنكار مظاهر الاضطهاد التي تعرضوا لها هنا والتي تم استغلالها بشكل خبيث من طرف البرجوازية العليا اليهودية التي تشكل الأساس الطبقي للحركة الصهيونية.

الحقيقة، أن فكرة العودة لم تكن مطروحة عند اليهود بل هي في الأصل فكرة المسيحيين الانجلاكيين les evangilistes الذين يدعمون اليوم بقوة دونالد ترامب والكيان الصهيوني. ومن المعطيات التاريخية الدالة أن 78 حاخام من أصل 80 رفضوا عقد المؤتمر الصهيوني بألمانيا ولهذا السبب تم عقده في بازل بسويسرا (3).

وهكذا انبثقت الصهيونية كإيديولوجية استعمارية عنصرية من أحشاء الرأسمالية الإمبريالية الأوروبية على النقيض من قيم حقوق الإنسان والمواطن والمساواة بين الشعوب.

إن الصهيونية ترتكز على فكرة مفادها أن اليهودي لا يمكن أن يعيش، أو يتعايش مع غير اليهودي. وهذا طبعا مجرد ادعاء مناقض لمعطيات التاريخ. لقد أرادت الحركة الصهيونية بهذا الادعاء الممسوخ، السيطرة على فلسطين، مركز الأرض، للسيطرة على العالم. لقد استولت على فلسطين كما استولت على اليهودية في آن واحد. إذ تعتبر أن هجرة اليهود إلى “أرضهم”، هي الحل لوضع حد “لمأساتهم” ووضع حد لفساد شخصيتهم.

لكن العديد من الحفريات والأبحاث الأركيولوجية الصادرة عن الجامعات “الإسرائيلية” نفسها تقول العكس تماما. لقد أصبح اليوم بديهيا بأن عددا كبيرا من الأحداث التاريخية، لم تجر لا في الأماكن المذكورة، ولا على الطريقة التي تم وصفها بها. أكثر من ذلك فإن بعض الحلقات الأكثر شهرة في الإنجيل، بكل بساطة، لم تحدث أصلا (4). الحقيقة التي تفقأ العين هي أن اليهود كسائر البشر هم من أعراق مختلفة وشعوب مختلفة واعتنقوا الديانة اليهودية في ظروف وأزمنة مختلفة. وإن البحث اليوم عن جين موحد مفترض لليهود عبر العالم يعد مهزلة كبرى.

وينطبق هذا على اليهود المغاربة، فليس لهم علاقة بعرق اليهود الذين هاجروا من فلسطين، لأنهم بكل بساطة كانوا يعيشون في القبائل الأمازيغية المغربية كغيرهم قبل تاريخ الهجرة المذكور أعلاه(5).

وبدل النظر إلى يهود شمال إفريقيا كيهود اعتنقوا الأمازيغية ثم العربية يجب النظر إليهم كأمازيغ وعرب اعتنقوا اليهودية وأن اليهود والمسلمين في المغرب الكبير يتقاسمون نفس الأصول في إطار مجال أمازيغي-عربي(6).

إن تجاهل هذا المعطى التاريخي وتشويهه من طرف تجار العمل الجمعوي باسم الأمازيغية هو تبرير للتطبيع والتعاون مع الكيان الصهيوني وهو مشاركة في الجرائم اليومية التي يقوم بها هذا الكيان الغاصب في حق الشعب الفلسطيني ومساهمة في ضرب السيادة الوطنية لبلادنا وتنكر وتشويه لتاريخ الشعب المغربي بكل مكوناته الأمازيغية والعربية الذي تسكن القضية الفلسطينية في وجدانه.

2- الحل الماركسي المتمثل في بناء الدولة الفلسطينية الديمقراطية والعلمانية على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم واسترجاع ممتلكاتهم.

هذه النقطة عميقة للغاية وتعني أولاً عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني “إسرائيل” كمشروعية. وتعني ثانيا عدم التساوق مع اتفاق أسلو التفريطي الذي تعمل على أساسه السلطة الفلسطينية ومجمل الأنظمة العربية الرجعية العميلة وخاصة المطبعة منها وعلى رأسها النظام المغربي. وتعني ثالثا أن حل الدولتين ليس حلا عادلا حتى لو كان صادرا عن الأمم المتحدة (الشرعية الدولية)، وقد طواه الواقع، واقع زحف الاستيطان، حيث تحولت قرى ومدن الفلسطينيين بالضفة الغربية إلى جزر صغيرة أو بانتوستانات تحيط بها المستوطنات الصهيونية من كل ناحية. إن الدولة الديمقراطية هي دولة علمانية بالضرورة، لأن العلمانية شرط للديمقراطية ومن مقوماتها. وهي دولة واحدة وموحدة، وهي دولة بكافة الحقوق ومواطنة كاملة للجميع، وهذا هو الحل الماركسي للقضية الفلسطينية.

وتعني رابعا، أن القدس برمزيتها، هي درة التاج وأن بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة، كما قال مظفر النواب. وهذا لا علاقة له بتكريس منظور ديني للقضية الفلسطينية كما قد يفهم البعض خطأ. بل على العكس فإن قطعان المستوطنين المحميين من طرف جيش الاحتلال، هم من يسعون جاهدين إلى تحويل القضية إلى قضية صراع ديني من خلال الاقتحامات اليومية للأقصى وباحاته.

وقد سبق للراحل أبراهام السرفاتي أن أوضح في رسالة مكثفة إلى “إيمانويل لفين” في سنة 1970، بأن بناء الدولة الفلسطينية الديمقراطية والعلمانية على كامل التراب الفلسطيني كأفق لا يعني البتة تجاهل الإرث الثقافي والديني الغني اليهودي والإسلامي (وأضيف المسيحي أيضا). بل على العكس من ذلك فإن الثورة الاشتراكية في الشرق تتطلب إدماج هذا الإرث المشترك لشعوب المنطقة (شعوب أهل الكتاب) (7).

وأضاف أبرهام في نفس الرسالة أن الثورة الاشتراكية البلشفية قد وضعت حدًا لمذابح اليهود في روسيا كما أن التضحيات العظيمة لشعوب الاتحاد السوفياتي شكلت عنصرا أساسيا في دحر النازية. كما يشهد الأعداء قبل الأصدقاء عن اضمحلال مظاهر التمييز على أساس عرقي أو ديني وسيادة الأخوة بين اليهود والمسلمين.

ولكن موقف الاتحاد السوفياتي بمساندة قرار التقسيم وإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين كان خطأ تاريخيًا فادحًا وتخليًا عن المنظور البلشفي الماركسي للمسألة ليهودية. وتبعته في ذلك ستة من البلدان الاشتراكية وأغلب الأحزاب الشيوعية التي كانت تدور في فلكه بما في ذلك من العالم العربي(8).

ومع ذلك فإن انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي يعد خسارة كبرى للقضية الفلسطينية. وزاد الطين بلة تراجع البناء الاشتراكي وانطفاء أضواء الماوية في الصين التي يتقفي الرفاق في الفيتنام أثرها ونموذجها، وكم أحزنني التعاون العسكري والزراعي الوثيق بين فيتنام و”إسرائيل” (9).

غير أن الحل الماركسي الجدري المشار إليه الذي يعني تحرير الوطن ، يتطلب كشرط ضروري القضاء على الإمبريالية التي تعد المصدر الأساسي للشرور الحالية والعدوان على الشعوب. أعتقد بأن الهزائم التي تلقتها الامبريالية الأمريكية في المشرق العربي والشرق الأوسط عموما والتوجه نحو عالم متعدد الأقطاب كلها مؤشرات على تراجع إن لم يكن اضمحلال الإمبراطورية الأمريكية(10).

3- الطريق إلى فلسطين: وصية الشهيد ابراهيم النابلسي: لا تتركوا البارودة.

إن المشاكل الكبرى للإنسانية لا يمكن أن تحل دون قدر معين من العنف الثوري المنظم. هذا كان حال كل الثورات الكبرى ومعارك التحرر الوطني. إن تحرير فلسطين يتطلب وضع الكفاح المسلح على رأس كافة أشكال المقاومة. لقد طورت المقاومة الفلسطينية أساليب وأدوات هذا الكفاح وكل عدوان تتعرض له تستفيد منه لإحداث قفزة نوعية جديدة.

وقد صرح ليبرمان وزير جيش الكيان السابق، وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، بأن “الجولات العسكرية التي يخوضها الكيان، بين حرب وحرب ستجعل الكيان يجد نفسه أمام حزب الله فلسطيني، على الحدود الجنوبية خلال ثلاث سنوات على أعلى تقدير” (10).

وأجزم بأن إعادة بناء المقاومة المسلحة في الضفة الغربية يسير رغم كل الصعوبات بخطى حثيثة نحو هذا الهدف الذي سيقلب الموازين. وإذ نؤكد على هذا لا نبخس أبدا أشكال المقاومة الأخرى ولا نزايد بل نؤكد على تكاملها مع جميع أشكال المواجهة الشعبية والمدنية والمقاطعة الاقتصادية التي تقودها حركة البي.دي.اس، التي ينبغي أن تتحول إلى حركة عالمية جارفة، ويتكامل مع المواجهة الثقافية والفكرية لتفكيك الرواية الصهيونية. وأؤكد في ختام هذا النص على تمفصل نضالات الشعب الفلسطيني مع نضالات شعوب منطقتنا وشعوب العالم (البعد الأممي).


(1) انظر المقال الهام “نازيون في مركز الارض”. مروان عبد العال. الهدف الرقمية عدد 48، أو الصيغة الورقية عدد 1522. ص.10
(2) انظر في هذا الصدد الدراسة المطولة التي قام بها مكتب الدراسات التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
Shlomo Sand: comment la Terre d’Israël fût inventée? (3)
I.Finkelestein et N.A.Silberman: la bible dévoilée(4)
(5) المرجع رقم(1)
(6) https://www.contretemps.eu/berberes-juifs/
(7) http://revueperiode.net/en-tant-que-juifs-antisionistes-lettre-dabraham-serfaty-a-emmanuel-levyne/
(8) تقرير منظمة Grain بالعربية.
https://grain.org/article/6987
(9) كتاب السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وايديولوجية وجيو-سياسية. مسعد عربيد. نشرته بوابة الهدف الاخبارية على 10 أجزاء.

(10) من تحرير الوطن الى الاستدوال. في نقد فكرة الدولة في الحالة الفلسطينية. وسام فقعاوي. مجلة التحرر التي يصدرها حزب النهج الديمقراطي العمالي. المغرب. عدد 8

(11) اتفاق أيار-بروفات لنصر قادم. راسم عبيدات. الحوار المتمدن.15 ماي 2023.

15 ماي 2023